مونيكا سيليش: نجمة انطفأت ثم أضاءت من جديد – قصة شجاعة تتحدى الزمن والألم

في عالم التنس، حيث تُصنع الأساطير بضربات الإرسال القوية وانسيابية الحركة على الملعب، برزت مونيكا سيليش كظاهرة استثنائية، شابة من يوغوسلافيا لم تكن مجرد لاعبة، بل كانت ثورة في عالم اللعبة. وُلدت في 2 ديسمبر 1973 في نوفي ساد، كانت مونيكا تُعدّ نسخة حية من العبقرية الرياضية، تُظهر موهبة لا تُفسر إلا بالفطرة. بدأت تلعب التنس وهي في سن الخامسة، وبحلول التاسعة، كانت تتدرب بجدية لا تليق بسنها. وعندما بلغت الثامنة عشرة، كانت قد أصبحت أصغر بطلة في تاريخ بطولة فرنسا المفتوحة (رولان غاروس)، بعد أن فازت باللقب عام 1990، لتُعلن للعالم أن مستقبل التنس قد وصل مبكرًا.

صعود نجم مبهر

مونيكا سيليش لم تكن مجرد فائزة بالألقاب، بل كانت تُعيد تعريف التنس النسائي. بضرباتها الصاروخية من الخلف، وحركتها السريعة التي تشبه الظل، وصوتها المدوّي عند كل ضربة (وهو ما أصبح علامة مميزة لها)، سيطرت على الملاعب بأسلوب لا يُقاوم. في عام 1991، فازت بثلاث بطولات جراند سلام: أستراليا المفتوحة، رولان غاروس، وويمبلدون. وفي 1992، كررت فوزها ببطولتي أستراليا ورولان غاروس، لتصل إلى 8 ألقاب كبرى قبل أن تبلغ العشرين من عمرها.

كانت تُعتبر المنافس الحقيقي الوحيد لشتيفي غراف، النجمة الألمانية التي هيمنت على التنس لسنوات. لكن سيليش لم تكن مجرد منافسة، بل كانت تُهدد بقيادة عصر جديد. في فبراير 1993، كانت تتصدر تصنيف اللاعبات المحترفات، وتبدو وكأنها الوحيدة القادرة على كسر هيمنة غراف. كل شيء كان يشير إلى أن مونيكا سيليش ستصبح أعظم لاعبة في التاريخ، أو على الأقل واحدة من أعظمهن.

اللحظة التي توقف فيها الزمن

لكن في 30 أبريل 1993، في إحدى مباريات بطولة هامبورغ المفتوحة بألمانيا، تغير كل شيء في لحظة واحدة.

كانت مونيكا تلعب مباراة نصف النهائي، تركّز على ضربة إرسال، عندما اخترق رجل الملعب فجأة من بين الجماهير. كان يُدعى غونتر بارش، وهو مهووس بشتيفي غراف، يعتقد أن سيليش “تسرق” الأضواء من بطلته المفضلة. اقترب من مونيكا من الخلف، وقبل أن يدرك أي أحد ما يحدث، أخرج سكينًا حادة وطعنها في الظهر.

انهارت مونيكا على الأرض، بينما امتلأ الملعب بالصراخ والذعر. الكاميرات صورت اللحظة الرهيبة، والعالم شهد واحدة من أكثر اللحظات دموية في تاريخ الرياضة. لم تكن الإصابة قاتلة، لكنها كانت رمزية بقدر ما كانت جسدية. طعنة في الظهر، نعم، لكنها كانت طعنة في قلب عالم التنس بأكمله.

معركة التحمل: بين الجسد والروح

نقلت مونيكا إلى المستشفى، حيث خضعت لجراحة طفيفة، لكن الجرح الجسدي لم يكن الأصعب. الأصعب كان الجرح النفسي. بعد أشهر من العلاج، تعافت جسديًا، لكنها فقدت شيئًا لا يُرى: الثقة. الثقة التي كانت تمنحها الشجاعة للاندفاع نحو الكرة، للقفز في الهواء، للوقوف وحيدة في ملعب مكتظ بالجماهير. لم تعد تشعر بالأمان. لم تعد تشعر بأن الملعب مكانها.

بعد غياب دام عامين، عادت مونيكا إلى التنس في أغسطس 1995. كان عودة مثيرة للإعجاب، لكنها لم تكن العودة التي توقّعها الجميع. لم تعد السيطرة الكاملة على الملعب، ولم تعد الضربات تخرج وكأنها من آلة. كل فوز أصبح معركة، وكل هزيمة كانت تعيد فتح الجرح القديم.

رغم ذلك، لم تستسلم. في عام 1996، فازت ببطولة أستراليا المفتوحة، لتصبح أول لاعبة تفوز بلقب جراند سلام بعد عودتها من إصابة كهذه. كان فوزًا لا يُقاس بالألقاب فقط، بل بالمعاني. كان فوزًا للإرادة، للشجاعة، للإنسان الذي يرفض أن يُهزم.

ما وراء الألقاب: البطولة الحقيقية

في النهاية، لم تفز مونيكا سيليش سوى بلقب جراند سلام واحد بعد الحادثة. أنهت مسيرتها عام 2003، بعد أن فازت بـ9 ألقاب كبرى، ودخلت قاعة المشاهير الدولية للتنس عام 2009. لكن أرقامها لا تروي القصة كاملة.

القصة الحقيقية ليست في عدد الألقاب، بل في كيف استطاعت أن تعود. أن تعود إلى الملعب الذي شهد أسوأ لحظة في حياتها. أن تواجه الجمهور، والكاميرات، والذكريات، وأن تلعب رغم الرعب الداخلي. أن ترفع الكأس مرة أخرى، ليس لأنها أرادت أن تثبت للعالم أنها لا تزال بطلة، بل لأنها أرادت أن تثبت لنفسها أنها لم تُهزم.

درس في الصمود

قصة مونيكا سيليش ليست مجرد مأساة رياضية، بل هي درس إنساني عميق. هي تذكير بأن المجد يمكن أن يُسلب في لحظة، وأن الحياة لا تعرف الرحمة. لكنها أيضًا تذكير بأن الإنسان قادر على النهوض، حتى من تحت الركام.

علمتنا مونيكا أن البطولة الحقيقية لا تُقاس بالكؤوس، بل بالقدرة على النهوض بعد كل سقوط. أن الشجاعة ليست غياب الخوف، بل التحرك رغم الخوف. وأن الأمل لا يموت، طالما بقي في القلب رغبة في الاستمرار.

في عالم يركّز على النتائج، تُذكّرنا مونيكا بأن الرحلة أحيانًا أهم من النهاية. وأن بعض النجوم، حتى وإن انطفأت، تظل تُضيء طريق الآخرين.

اليوم، عندما نتذكر مونيكا سيليش، لا نتذكر فقط الفتاة التي فازت بـ9 ألقاب كبرى، بل نتذكر المرأة التي واجهت الظلام، وواصلت السير. نتذكر رمزًا للصمود، وشهيدًا للرياضة، وبطلة حقيقية – ليس لأنها لم تسقط، بل لأنها عادت بعد أن سقطت.

مونيكا سيليش: نجمة لم تنطفئ، بل تحوّلت إلى شمعة تضيء درب من يفقدون الأمل.